عن العلاقات السعودية-التركية .

تعرضت العلاقات السعودية-التركية لعدد من الهزات والاضطرابات -الغير عادية- خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أنها لم تصل الى حد الإنهيار، ولعل ذلك يرجع للعديد من الأسباب أبرزها متانة العلاقات التأريخية الإستثنائية بين البلدين الشقيقين، والقواسم الدينية والعقدية المشتركة، أضافة الى الضرورات الاقتصادية والأمنية المرحلية والإستراتيجية التي تفرض عليهما الإستناد لبعضهما في مواجهة التحديات والأخطار المشتركة . 

وفيما تترقب تركيا انتخابات رئاسية وتشريعية هامة، في منتصف يونيو/حزيران 2023، يلعب الاقتصاد فيها دورا فاعلا في تحديد التوجهات التصويتية لشرائح عدة من الشعب التركي؛ فإن الاقتصاد يشكّل محوراً مهمّاً في العلاقات بين أنقرة والرياض، ويتضح ذلك جلياً عند النظر إلى أرقام التجارة الثنائية بين البلدين.

فخلال العقدين الماضيين أجرى البلدان مفاوضات لتعزيز العلاقات الثنائية ورفع حجم التبادل التجاري بينهما، واتُّخذت خطوات متبادلة في هذا الصدد بعد أن تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين ذروته عام 2015 بعد اقترابه من 5.6 مليار دولار، وفقاً لبيانات وزارة الخارجية التركية.

وتتالت الزيارات الرسمية المتبادلة رفيعة المستوى بين البلدين خلال العام الماضي والتي ابتدأها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في زيارة رسمية للمملكة العربية السعودية في ابريل/نيسان 2022، بدعوة من العاهل السعودي "نتج عنها أغلاق ملف قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي"، تلتها بشهرين زيارة رسمية لولي العهد السعودي الى أنقرة ضمن جولة إقليمية شملت مصر والأردن، أضافة لعدد من الزيارات الرسمية الأخرى -على مستوى أقل- كان أخرها زيارة رئيس مجلس الشورى السعودي في 25/12/2022 حيث التقى خلالها بالرئيس التركي رجب طيب اردوغان في القصر الرئاسي بأنقرة . 

ومع عودة العلاقات السعودية-التركية الى سابق عهدها، فقد شهد العام الماضي عودة النشاط التجاري بين تركيا والمملكة العربية السعودية، إذ سجّلَت الصادرات التركية إلى السعودية ارتفاعاً بنسبة 180%، في الأشهر التسعة الأولى، فيما حققت عائدات بقيمة 420.9 مليون دولار، لتتجاوز عائدات الصادرات التركية إلى السعودية منذ يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول 2022، إجمالي صادرات العام الماضي التي بلغت 186.7 مليون دولار، وفقاً لتقرير نشرته الأناضول.

وقد شهد منتدى الأعمال والأستثمار السعودي-التركي نهاية عام 2022، أعلان سعودي عن رغبة لرفع حجم الإستثمارات في تركيا الى 3.3  مليار دولار، سبقها في شهر نوفمبر الإعلان عن وديعة سعودية بقيمة 5 مليار دولار في البنك المركزي التركي، وتعمل تركيا جاهده الى أيصال حجم الإستثمار السعودي في تركيا الى 25 مليار دولار وحجم التبادل التجاري الى 20 مليار دولار . 

وتعددت المواقف السياسية الإيجابية المتبادلة بين البلدين خلال العام الماضي، والتي كان من أبرزها تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاوش اوغلو الداعم لسياسات منظمة اوبك بلس التي تقودها المملكة العربية السعودية بخفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل، حيث صرّح بأن "تنمُّر الولايات المتحدة على السعودية بخصوص قرارات اتحاد أوبك، عمل غير صائب". 

نحو منطقة اكثر استقرارا وتعاون . 

بشكل واضح آثرت الولايات المتحدة الأمريكية مصالحها وأهدافها العالمية المتمثلة في تقويض الصعود الاقتصادي والتقني والسياسي الصيني وتبعات الحرب الروسية الأوكرانية على إلتزاماتها المعلنة تجاه شركائها في المنطقة، ونتائج غزوها للعراق . 

وأدى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانسان "وتقليص دورها في المنطقة" الى فراغ تحاول بعض القوى الإقليمية ذات النزعة التوسعية (إيران) الاستفادة منه، الأمر الذي أدى الى حالة من القلق بين دول المنطقة وعلى رأسها دول الخليج العربي، ودعاها لأن تفكر بجدية حول مستقبل أمنها واستقرارها وأمن مصالحها الحيوية وإيجاد حلول وبدائل ناجعة تغني عن الحاجة الكاملة للحماية الامريكية . 

ونتيجة لهذا التوجه فقد فرضت الضرورات الدفاعية والأمنية المرحلية والإستراتيجية نفسها في وجه هذه الدول. 

من جانب أخر فقد شهد الاقتصاد التركي خلال الثلاثة الاعوام الماضية أزمات خانقة وأنهيار حاد في قيمة الليرة التركية تجاوز 70 في المئه، وجاءت حرب أوكرانيا لتعمق أزمة تركيا الاقتصادية، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية وانخفاض السياحة، الامر الذي دفع بتركيا الى إيجاد حلول تجارية واستثمارية تساعدها في التعامل مع أزمتها الاقتصادية المتفاقمة.

ونظرا لهذه الأسباب فمن الطبيعي أندفاع دول المنطقة نحو إصلاح علاقاتها ببعض، حيث أندفعت تركيا ورئيسها إلى تحسين العلاقات مع المحيط العربي/الإقليمي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، وقد سبق تحسن العلاقات التركية-السعودية نجاح سعودي في أصلاح العلاقات السعودية القطرية وترميم البيت الخليجي، وتحسن العلاقة الإماراتية التركية، وتحسن نسبي للعلاقات التركية المصرية، بالإضافة لتحسن العلاقات التركية الإسرائيلية. 

ومما لا شك فيه أن نجاح معادلة الأمن والأستقرار في المنطقة تتطلب تعاون وتحالف مشترك بين الدول المحورية في المنطقة (دول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية، مصر، تركيا) لمواجهة كافة التحديات والتهديدات المشتركة المرحلية منها والإستراتيجية سواء الأمنية منها أو العسكرية والإقتصادية، خاصة مع وجود مؤشرات لتحولات عالمية لمسنا أنعكاس أثارها السلبية، وتتطلب لتجاوزها مزيدا من التعاون والتنسيق المرحلي والأستراتيجي بين دول المنطقة .  

إن التحالف والتعاون السعودي التركي يزيد من محاصرة إيران وعبثها في المنطقة، ويقود الى توقف التعاون التركي الإيراني، ويتيح فرصة لحلحلة عدد من الملفات على رأسها الملف السوري وذلك بالتفاهم حوله مع الجانب الروسي بعيداً عن أيران .

الأفاق المستقبلية للتعاون المشترك .  

تتعدد الأحتياجات السياسية والأقتصادية والعسكرية والأمنية لقيام تحالفات وتنسيقات وتعاونات تكاملية بين دول المنطقة، يأتي على رأس هذه الأحتياجات محاربة التنظيمات الإرهابية على رأسها"القاعدة، وداعش" والمليشيات المزعزعة لإستقرار المنطقة (مليشيا وأذرع إيران)، وحماية دول المنطقة من أثار وأنعكاسات الصراع الروسي/الغربي أضافة للصراع الأمريكي/الصيني على كافة المستويات الأمنية والأقتصادية والعسكرية، أضافة الى ضرورات تعزيز التعاونات والتبادلات التجارية والأقتصادية بين دول المنطقة بما يعود بالنفع على الإقليم. 

وتتميز العلاقات السعودية-التركية بتقاطع المصالح والرؤى في عدد كبير من ملفات المنطقة والقضايا الدولية، والتي يمكن العمل على ترسيخها وتدعيمها وتمتينها، حيث أن لهما وجهات نظر متطابقة تجاه مشروع الدولة الوطنية، وخطورة المشروع الفارسي التخريبي في المنطقة، ولهما خبرات وتعاونات سياسية وأمنية سارّه في محاربة التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا على رأسها تنظيم الدولة الإسلامية ما يعرف بـ تنظيم (داعش) . 

كما أن تقاطع المصالح السياسية والأمنية السعودية-التركية يتعدى ملفات المنطقة ليشمل البُعد العالمي والنظام الدولي القائم مع تباينات فرعية تفرضها الجغرافيا والقدرات والإمكانات لكل دولة. 

من الواضح أن الجانبان السعودي والتركي يحرصان على إعادة العلاقات وتمتينها بما يخدم مصالح الدولتين، وتسعيان حالياً لإقامة تعاون وتنسيق في جوانب متعددة سياسية واقتصادية ودفاعية وأمنية وذلك لإحداث توازن أمني في المنطقة لا سيما بعد الأستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، وما تقتضية الضرورات السياسية والأقتصادية والأمنية المرحلية والأستراتيجية للبلدين من توسيع للنقاشات للوصول الى رؤية مشتركة أكثر وضوح ودقة تجاه مختلف الملفات والقضايا الأمنية والسياسية المشتركة .

وقد وصلت العلاقة السعودية التركية أعلى مستوياتها بعد تشكيل المجلس التنسيقي المشترك في ابريل 2016، حيث أن وجهات نظر البلدين ظلت متطابقة تجاه معالجة الأزمات في سوريا والعراق واليمن، وقد أتى ذلك بعد تشكيل مجلس أستراتيجي مشترك، ما يعكس حجم التوافق واستمرار التشاور بين البلدين في مختلف المجالات. 

ويعتبر تفعيل مجلس التنسيق السعودي-التركي المشترك ومجلس التعاون الأستراتيجي وترسيخ العلاقات، مثلما رسخت السعودية العلاقات مع مصر وأنتقلت بها من التنسيق التنسيق العسكري الى التعاون الأستراتيجي، خطوة هامة لإعادة ترتيب أوراق المنطقة التي ضربتها الفوضى .

والحقيقة التي ينبغي أن ينظر اليها هي أن تحسن العلاقات بين قوتين إقليميتين مثل السعودية وتركيا، يمكن أن يكون له مردود إيجابي على دول المنطقة بأكملها.