الفرق بين الواقعية وبلادة الحسّ الوطني

لسنا مغفلين إلى درجة أننا لا ندرك أن اليمن يعيش حالة تشظي وانقسام كأمر واقع ناتج عن انهيار الدولة والحرب،

ولكن لسنا أحجاراً لكي لا تصدمنا الوقائع وتثير لدينا الرغبة في الصراخ ضد كل مظهر جديد من مظاهر تحلّل الكيان الوطني.

من الصعب مثلاً أن لا أشعر بالصدمة في كل مرة أرى فيها علم اليمن يداس،

من الصعب أن لا أشعر بالصدمة وأنا أرى قوة انفصالية تقتطع أجزاء واسعة من بلادنا بدعم ورعاية خارجية، وأرى في المقابل قوة إمامية ظلامية تثبِّت أركانها على الأجزاء الأخرى.

فكرة "ضرب الإخوان"، حتى لو كان هناك من يزعم أنها هدف عادل، فأدوات التنفيذ المتوفرة قطعاً ليست عادلة بالمقياس الوطني عندما يكون الثمن بهذا الحجم المهول.

لا تستطيع هذه الفكرة -طالما تتم بالطريقة التي تجري بها- أن تهوّن من وقع النتائج على النفس.

علماً أن مشاعر الصدمة التي نعيشها مؤخراً ليست جديدة.

ففي 2014، كان من الصعب أن لا أشعر بالصدمة عندما كان "ضرب الإخوان" يكلّفنا تسليم عاصمة الدولة لقوة تنحدر من الماضي السابق لليمن الجمهوري.

لن أكون نفسي إذا تظاهرت بأنني لا مبالٍ.

مع أني تأمَّلت انهيار اليمن بكل وضوح في كتاب يحمل عنوان بدا صادماً للبعض: "الجمهورية الفانية"، ولكني لم أكتسب مناعة ضد الانفعال المشحون بالعاطفة، فالأحداث المصيرية مهما كانت متوقَّعة إلا أنها تكتسب فور وقوعها عنصر المفاجأة والقدرة على اختراق أقوى دفاعاتك النفسية.

لكم أن تفعلوا ما تشاؤون.

اتركوا لنا فقط هذا الحق في التخبّط والعويل وإطلاق اللعنات، مثل مريض يتم إخضاعه قسراً لعملية جراحية خطرة بدون تخدير.

مع أنني لا أعتبر نفسي طوباوياً حالماً، على الإطلاق.

بالعكس، لطالما نظرتُ بعين الشك إلى كل طوباوية هوائية متحررة من المسؤولية ومن الإحساس بحقائق الزمان والمكان.

لكني في المقابل لستُ واقعياً بإفراط ومن غير قيد أو شرط.

أحاول الاحتفاظ بانحياز شخصي ثابت إلى بعض الأخلاقيات والاعتبارات الوطنية التي تندرج في إطار الإمكان التاريخي المحلي الحديث، وهو ما يميزها عن الأخلاقيات والاعتبارات الخيالية التجريدية المنفصلة عن شروط الممارسة العملية في المجال المحسوس.

لكني أحاول أيضاً أن لا أعطي لنفسي الحق في الحُكم المُطلَق على اختيارات الآخرين، لمعرفتي بملابسات اللحظة الراهنة وطبيعتها غير الاعتيادية.

أقول هذا لأنه مهما كانت درجة واقعيتك السياسية، ومهما كانت مسوّغاتها منطقية، إلّا أنك لن تستطيع الاستغناء تماماً عن الحد الأدنى من الشعور الداخلي بكونك على صواب، الصواب من وجهة نظر الحسّ العمومي المشترك، وليس الصواب الفردي.

حتى في الحرب، أنت بحاجة إلى إسناد ما لديك من قوة مادية بقوة أدبية معنوية تستمد منها العزاء عندما يتسرب إليك الضعف، وتشدّ من أزرك عندما يخذلك الصديق، وتأخذ بيديك كلما فلّ عزمك.

مشكلة الواقعية المنفلتة من كل التزام عقلي أو أخلاقي، والتي تعبر عن نفسها بفظاظة صادمة، هو أن نجاحها في التاريخ غير ممكن بدون قوة مادية جبَّارة ولا تُقهر بحيث تسدّ النقص الظاهر الذي يعتري الوجه الأدبي والمعنوي لهذه القوة.

بمعنى: تعويض النقص في الحق بزيادة هائلة في القدرة.

لكن حتى هذا التعويض من خلال القدرة المادية الساحقة، لن يكون بديلاً مستمراً يُغني عن الحقّ، عن مستوى معقول من القوة الأدبية والأخلاقية.

آ